غادرت تونس سنة

[غادرت تونس سنة 2008. كانت بلادي في ذلك الوقت، كسائر بلدان المنطقة، تحت حكم نظام استبداديّ قمعيّ، متغلل و مسيطر إلى حدّ كبير في مفاصل الدّولة. و دائمًا ما كانت الأخبار المتأتيّة من هناك رتيبة و متكرّرة و معدِّدةً كلُّها لإنجازات "صاحب التّغيير". لكن، كان الجميع في الخفاء، و قد استمعت للكثيرين منهم، يتبادلون قلقهم إزاء الحياة التّي ازدادت صعوبة و آفاق الأمل الّتي بدأت تضيق أمام شبابهم.

سارت الأمور كذلك إلى أن جيئنا يوم بنبأ إضرام شابّ النّيران في نفسه، بعد أن فقد الأمل في العيش الكريم. تعالت الأصوات خلفه محتجّةً على وضعه و على وضع الكثيرين من أمثاله. خرجت مظاهرة، ثمّ اثنتان فثلاثة فأربعة فمظاهرات جابت كلّ البلاد و انتهت بهروب الطّاغوت، "صانع التّغيير" (كان بذلك قد صنعه مرّتين، المرّة الأولى عند صعوده إلى الحكم، و المرّة الثّانية، دون أن يشعر، عند هروبه منه). لم أكن أظنّ، و لم يكن يظنّ الجميع، أنّ صديقنا قد كان بهذه الدّرجة من الجبن و هذه الدّناءة. و لكن شاء القدر أن سارت الأمور على ذاك النّحو.

كان ذلك اليوم التّاريخيّ و المشهود و اللاّمسبوق حدثًا تلاطمت فيه المشاعر و الأحاسيس في داخلي: بين القلق و الطّمأنينة، بين الحزن و الفرح و بين التّشاؤم و التّفاؤل. قلق خوفًا على بلادنا من الانزلاق في العنف و طمأنينة لما رأيته في بني وطني من تكاتف و تعاون و تحضّر. حزن للخوف الّذي اختبره البعض و فرح لكلّ الخير الّذي يمكننا أن نناله إذا ما عرفنا الوصول إليه. تشاؤم من ذلك الوقت العصيب و تفاؤل لكلّ الخير الّذي قد يأتي بعده.

مرّت الآن سنتان على التّغيير في تونس، ولا زال هذا الشّعور المزدوج. ازدواجيّة مردّها حالة المخاض الثّوريّ الّتي تعيشها بلادنا. خطابات تأتينا من هذا الجانب أو ذاك، أصحابها يعتقدون في صحّة أفكارهم و أقوالهم، لكنّها خطابات تُجانب في مجملها الواقع، يتوه فيها المواطن فلا يجد فيها حلولاً لمشاكله.

رغم هذا الأخذ و الرّد، ورغم حالة القلق و الزّجع الّتي تنتابني و الّتي رأيتها، آخر مرّة زرت بلدي، في عيون أقاربي و أصدقائي، فإنّني لا أزال أنظر إلى أفق المستقبل بعين متفائلة، لا أزال أعتقد في قدرتنا على تجاوز هذه المرحلة العصيبة و الدّخول في مرحلة دائمة مزدهرة، مرحلة رهينة قدرة كافة التّونسيين على التّكاتف و التّعاون و تغليب مصلحة أمّنا المشتركة، تونس، على كلّ المصالح.